لماذا العودة الدائمة الى عبد الكريم قاسم؟

المقاله تحت باب  في السياسة
في 
16/07/2011 06:00 AM
GMT



"الملك فيصل الاول، الملك غازي، الملك فيصل الثاني 1958 (ابادة)، يا لهذه العائلة التعيسة التي لا تعرف العد حتى الملك الرابع". (بتحريف عن جاك بريفير).

كانت أمي فخرية السلمان تمتلك (محمل) كما تسميه، فيه صورتان، في الجهة اليسرى صورة بنت المعيدي وفي الجهة الثانية صورة عبد الكريم قاسم. كنت مشدوها بالصورتين معا، أسطورة بنت المعيدي التي تركت أهلها وهربت مع عشيقها، وأسطورة الزعيم الأوحد كما يسميه الشيوعيون، الذي احدث صدمة في وعي أبي، محسن الداود، حيث يقول انه لم يصلِّ طول عمره، ولكن عندما سمع بمقتل الملك فيصل الثاني وسحل نوري سعيد بالحبال وسحقه بسرفات الدبابات حتى تحول الى خرقة، وتقطيع الوصي عبد الاله، والتمثيل بالجثث من قبل شعب الحضارات، خرج الى ارض البرية مع أهل (قرية الغربية)، في لواء الكوت، واخذوا يؤدون الصلاة ويطلبون المغفرة لان السماء سوف تنطبق على الارض. هكذا تمت اللعبة الماكرة واندمجت الاقانيم (الملك المقدس) (الدين الشعبوي) والانقلاب العسكري وعبد الكريم قاسم، في وعي فلاحي عراق الخمسينيات، لكن وصول حجي محمد آل عبد الامير، سجين نقرة السلمان ذي النزعة الستالينية، استطاع ان يقلب ويتلاعب بالصورة ويغير المشهد السياسي في القرية ويقود اول هجوم على سراكيل القرية الذين حولوا الفلاحين الى عبيد واقنان.لماذا العودة؟منذ سقوط السلطة الفاشية العام 2003 ولغاية الآن يجرى سنويا احتفالات اشبه بالطقوس الدينية لعبد الكريم قاسم. وخلال مسار التاريخية الوطنية العراقية تم اضفاء هالة اسطورية على شخصية قاسم مع كم هائل من المنقولات والمرويات الثقافية والخوارق التي اشتغلت على تلك الظاهرة حتى افقدتها بعدها الانساني، وتحول قاسم الى شخصية ميتا – واقعية. وهذه مشكلة الحقل الرمزي العراقي، حيث اوجد في تلك الظاهرة اشباعاته الاسطورية وجرت عمليات التحيين والاستدعاء الاسطوريتين وتكثيف الواقعة ودمجها بمختلف العناصر الايديولوجية.ماذا يعني الاحتفال بعبد الكريم قاسم بعد كل هذه الخيبات والانكسارات والانهيارات؟ تبدو هذه الاحتفالات وكأنها اكثر الأشياء طبيعية في الكون وفي مكان غامض اسمه العراق بفضل اللحظة التي يسميها العراقيون بكثير من الحنين بالزمن الذهبي. فهذا الحدث الاحتفالي بعبد الكريم قاسم في التاريخ الوطني العراقي يختزل وببلاغته الخاصة وطاقاته المجازية العالية، حالات الشلل والاعياء والنضوب الفكري لمفكري السياسة العراقية (بالمعنى الاستعاري)، ولم نجد مراجعة نقدية سياسية او فكرية او تصفية حساب ختامي مع (جزمة) عسكرية اطاحت بالنمو البطيء للمجتمع والدولة والافراد الاجتماعيين في العراق، حيث ان النظام الملكي كان ينمو بشكل طبيعي داخل البنيات الاجتماعية والتركيبات والانساق الثقافية للمجتمع. لماذا لم يستأنف المؤرخون العراقيون او المثقفون او الباحثون في مجال التاريخ او الانثربولوجيا السياسية او علم الاجتماع السياسي سلسلة من الاسئلة التي لم تطرح في حقل التاريخية العراقية الحديثة؟ لماذا تم استيراد ملك من خارج العراق؟ هل كان المجتع العراقي عقيما الى درجة عدم انجاب ملك؟ ولماذا صمم البريطانيون الدولة العراقية الحديثة بعد العام 1921 بهذا الشكل الملتبس؟ في العهد الملكي – البريطاني وهو العهد الدستوري التأسيسي، شهد البلد ولادة الاحزاب السياسية والفكر العراقي الحديث، فضلا عن حيادية الدولة ازاء التنوعات الثقافية والدينية والطائفية وتوحيد العشائر المتشظية. كانت الدولة الملكية مؤسسة على اساس المركزية وتمثل ذروة اشكال الدولة الاوربية الحديثة.جاء انقلاب 1958 ليجري تحولا جذريا راديكاليا في طبيعة السلطة والدستور والمجتمع واستنفر الجموع التي سمتها أدبيات الانقلاب والاحزاب (الجماهير) و (الشعب)، جموع ليس لها هوية طبقية او هوية ثقافية او هوية سياسية، جموع تمارس الهيمنة على الشارع والمجتمع وتعطي تفويضا كاملا لزعيم قادم من مؤسسة عسكرية لا تفرق بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي، وانما تعرف نفسها بالهتافات. هذه الجموع والمؤسسة العسكرية دمرت الدولة التي تحلم بها اجيال العراق لغاية الآن.لنكن واقعيين واكثر حصافة في قراءة التاريخ. لماذا نستعين بحدث تاريخي وبميراث ملتبس ومشروع يحمل من التأويل القصدي الكثير ويمثل اهم التجليات التاريخية الراديكالية في صيرورة التاريخية العراقية؟ لماذا تتم قراءة تاريخ الشخصيات في العالم الواقعي العراقي قراءة اسطورية بعيدا عن التداولات النقدية مع العلم ان التاريخ هو احد نماذج المعرفة. هنا تكمن شراسة المفارقة العراقية في نقطة هلامية غير مرئية حيث يهيمن الرمز او الشخصنة سواء كان ذلك في الفكر او السياسية او الاقتصاد او السلطة. وقد انتقل هذا الوباء من بين امور اخرى الى كتاب الاعمدة والمحللين والصحفيين والمثقفين التقليديين والاكاديميين: ازدراء يكاد ان يكون عضويا لكل تحليل يقوم على علاقات الدلالة بين الاشياء او يحاول الاستعانة بمعطيات سياسية او اقتصادية او تاريخية، حيث نجد الكتابات الكثيرة عن الزعيم الاوحد تتخبط بين تقارير صحفية مكتوبة على عجل لملء الاحتفالات الكثيرة، يمكن ان توضع في باب المجاملات او الانطباعات او تحت تاثير الفضاء السياسي العام، وهي مفصولة ومقطوعة الصلة بالواقع الحقيقي للظاهرة القاسمية التي تحتاج الى اكثر من اختبار للتحقق من صحتها.ان التحديدات المادية والايديولوجية التي اوجدها انقلاب تموز 1958 ادت الى نمو النزعات العسكرتارية داخل المؤسسة السياسية العراقية واضفاء الشرعية الثورية على الفعل الانقلابي. فمنذ تلك اللحظة اصبح تاريخ العراق سلسلة من الانقلابات وخرقا لنمو المؤسسات الدستورية. ومن السذاجة تصور ان تركيبة المؤسسة العسكرية وعبد الكريم قاسم كانت تؤمن بالحياة الديمقراطية والحريات المدنية والانتخابات، ذلك ان كل هذا كان يهدد مصالحهم في الاستيلاء على الحكم المدني اصلا حيث استأصلت المؤسسة العسكرية البدايات الجنينية للمؤسسات البرلمانية، فضلا عن الغاء القانون الاساس في العام 1925 وايجاد دستور مؤقت دمج بين السلطة والدولة والسلطة التنفيذية والتشريعية بيد الزعيم الاوحد ما ادى الى تآكل بنية الدولة.لماذا يقع الباحثون التاريخيون دائما في دائرة الافراط والعمى الستراتيجي مقابل شخصية اصبحت من حق التاريخ ولا بد ان تخضع للتحليل والتفحص والقراءة بعيدا عن الاحتفاليات الاسطورية، التي تحاول اعادة انتاج هذه الظاهرة بكل تشعباتها المحلية والاقليمية والسياسية؟ بين حد المأساة والكوميديا السوداء في العراق مساحة لطرح الاسئلة رغم ان كليهما قناع للاخر.بماذا يسمى هذا الشغف الكبير بعبد الكريم قاسم الى درجة التماهي والتوحد؟ ألم تكن مذابح القصر الملكي ومذابح كركوك والموصل تمثيلا حيا للعنف والبربرية والهمجية ومنها تمتد رائحة الدم العراقي الى الوقت الحاضر؟ ألم تكن الظاهرة القاسمية العسكرتارية تأسيسا اوليا لنمو الدولة الشمولية البعثية العراقية؟ لماذا سلّم قاسم العراق شعبا وارضا وتراثا وحضارة بيد الفاشيين البدويين القادمين من القرى والارياف؟ ان اسوأ شيء يمكن ان يحدث لبلاد هو ان يستولي قائد عسكري على السلطة بعيدا عن الشروط الموضوعية وبعيدا عن الحقل السياسي. ففي هذه اللحظة تنمو الفظاعات السياسية. تكاد الاجابة تناغم حد البداهة وقد اصبحت الاحتفالات بالرمز في مجتمع بلا رموز جزءا من الفضاءات الثقافية العراقية على حساب التحليل القائم على الاستدلال المنطقي والتاريخي لتلك الظاهرة التي ظلت تقرأ تحت مفهوم الوطنية والنزاهة الشخصية اللذين لا يشكلان معيارا تاريخيا لبناء الدولة الحديثة. الجماعات القومية العراقية تنظر الى قاسم بوصفه ديكتاتورا فرديا انحرف بالثورة التموزية، اما جماعات الملكية العراقية السياسية فتنظر الى قاسم بانه جزء من عملية اجرامية افضت الى ابادة العائلة الملكية في العراق ولم يطبق القوانين الجنائية او الشرائع السماوية بحق المجرمين والقتلة، اما الجماعات السياسية الاخرى فتستثمر التعاطف الشعبي وسط ازمات تكوين الدولة العراقية ما بعد العام 2003 والصراعات الطائفية والاثنية والعنف وغياب الشرعية وهي محاولة ديماغوجية لارساء اسس التعبئة السياسية وتجاوز فشلها.اذا شئنا تفكيك هذه البنية الذهنية الى مكوناتها الاولية، نجد ان مركز الفعل فيها يقوم على فرضيات تقلل من شأن المعرفة. هذه الفرضية مرتبطة بتصورات رومانسية عن دور الفرد في التاريخ تعود الى مرجعيات ما قبل الماركسية، وهي في جميع الاحوال تمثل فك الارتباط بين صناعة المعرفة والتاريخ واعتمادا على الالهام الاسطوري للزعيم كمرجعية في الممارسة السياسية. وهذا يفسر دخول السياسة الحزبية في العراق ومنذ سقوط النظام السياسي في حقل الفقر والبلادة. استعادة عبد الكريم قاسم المستمرة طوال سنوات ما بعد سقوط الجمهورية الرابعة، يعطي دليلا على الهزيمة الاستراتيجية التي مني بها المجتمع والدولة والعقل الثقافي والمجتمع السياسي العراقي. علينا ان نعترف اننا شعب بلا رموز قادرة على الصمود أمام الفحص النقدي والتاريخي.